التاريخ الهجريُّ ليس مجرَّد طريقة لحساب الزمن، بل هو رمزٌ وهويَّة لأمتنا الإسلاميَّة؛ فتاريخنا مرتبِطٌ بأحداثٍ عظيمة، مرتبطة بالشُّهور الهجريَّة؛ مثل: شهر رمضان المبارك، الذي صار رمزًا للانتِصارات والفتوحات الخالدة في بدرٍ وفَتْح مكَّة وحطِّين وعين جالوت، والقارئ الملاحِظ لِسِيَر الأمم، يرى أنَّ التاريخ من أهمِّ ما تحرص عليه؛ لذلك يَقوم علماء الدِّين في مختلِف المِلَلِ والنِّحَل على التقويم والعناية به من حيث الحسابُ والمواقيت، والأعيادُ والمناسبات، وبدايةُ كلِّ شهرٍ ونهايتُه، وأحوال السِّنين، والبَسْط والكَبْس، كما حصل من رُهبان الرُّومان، وسدَنةِ المَجوس، وحاخامات اليهود، وباباوات النَّصارى، وكما فعل أيضًا الخليفةُ الرَّاشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه الذي أقرَّ تاريخًا جديدًا للأمَّة الإسلامية، ينطلق من بداية الهجرة النبويَّة الشريفة من مكَّة إلى المدينة.
التقويم هو نِظامُ عدٍّ زمني لحساب التواريخ للأيَّام، يتمُّ فيه حسابُ التواريخ بناءً على معاييرَ مختلِفةٍ في التقاويم المتنوِّعة؛ فهناك تقويمٌ يَعتمد على الشَّمس، وموقعِ الأرض: (التقويم الميلادي)، ومنها ما يَعتمد على ميلاد ونهاية القمَر: (التقويم الهجري)، كما أنَّ هناك تقويمًا يعتمد على القمر والشمس معًا، وهناك تقاويمُ تعتمد على كواكِبَ معيَّنة، وغيرها ما لا يعتمد على أيِّ عامل واضح.
التقويم الميلادي:
تَرجع نشأة التَّقويم الميلاديِّ إلى الرُّومان الَّذين كانوا يَعتمدون على التقويم القمريِّ حتَّى سنة 45 ق. م، وكان شهر مارس بدايةَ السَّنة، وكانت السنة 354 يومًا، وحتَّى تتَّفِق السَّنةُ مع الفصول الأربعة؛ كان الرُّومان يُضيفون شهرًا كلَّ سنتين، لكن هذا النِّظام أدَّى إلى حدوث اضطرابات ومُنازعات سياسيَّة، وفي سنة 46 ق. م اعتمدَ (يوليوس قيصر) على نصيحة الفلَكيِّ المصريِّ (سوسيجينس Sosigenes) الذي اقترحَ أن يكون طول السَّنة 365 يومًا لمدَّة ثلاث سنوات «التقويم اليولياني»، تليها سنَةٌ رابعة يكون طولُها 366 يومًا، وتُعرَف باسم سنَةٍ كبيسة؛ أي: السَّنَة التي تَقبل القسمة على أربعةٍ بدون باق، وبذلك يصير طول السنة في المتوسط 365 وربع يوم، وهذا يعني أنَّ السنة اليوليانيَّة تزيد عن السنة الحقيقية بمقدار 0,0078 يومًا، و11 دقيقة، و14 ثانية؛ أي يوم كامل كل 128 سنة، وهذا يعني أيضًا أنَّ التاريخ طبقًا للتقويم اليوليانِي سيكون متأخِّرًا قليلًا عن التاريخ الحقيقيِّ.
إلاَّ أن عملية تراكُم الخطأ مع مرور السَّنوات كانت واضحة، ولا يمكن أن تتماشى مع الواقع، وبالفعل ففي 5/10/1582م؛ أي: بعد مرور حوالي 16 قرنًا من بدء التاريخ اليولياني، لُوحِظَ أنَّه تأخَّر عن التاريخ الحقيقيِّ بمقدار 10 أيام، الأمر الذي أدَّى إلى لزوم ضَبطِه؛ حيث أُضيف هذا الفرق لِيُصبح التاريخ الجديد 15/10/1582م، وهو التاريخ المفترض أن يكون، وتَمَّت هذه الإضافة بأمرٍ من البابا (جريجوري الثالث عشر)، وكان هذا بدايةَ تعديل التَّقويم اليوليانيِّ إلى التقويم الجريجوري، حيث جُعِلَت السنة 365 يومًا لثلاث سنواتٍ متتالية سنة بسيطة؛ بحيث تجمع الكُسور في السنة الرَّابعة لتصبح 366 يومًا سنة كبيسة، ولكي لا نَرجع إلى نفس مشكلة التأخُّر عن التاريخ الحقيقيِّ، فقد اشترط للقرون السنوات المِئِين في هذا التقويم أن تَقْبل القسمة على 400 بدلًا من 4؛ لِتُصبح سنةً كبيسة، بهذه الطريقة أصبحَت السنة في التقويم الجريجوري 365,2425 يوم، مقابل 365,2422 يوم في السنة الحقيقيَّة؛ أي: بفرق قدره 0,0003 يوم، أو يوم واحد كلَّ 3333 سنة.
وبناءً على هذا التعديل؛ فإنَّ السنوات المئويَّة؛ مثل 1400، 1500، 1600... لا تُعدُّ سنواتٍ كبيسةً إلاَّ إذا قَبِلَت القسمة على (400) بدون باقٍ، بينما السنوات العاديَّة تقسم على (4) فقط؛ لكي تُعرَف أنَّها كبيسة، وعلى هذا الأساس كانت سنوات 1700م، 1800م، 1900م سنواتٍ عاديَّة، أمَّا سنة 2000م، فهي سنة كبيسة، ويكون شهر فبراير فيها 29 يومًا.
وجديرٌ بالذِّكْر أنَّ التعديل الجريجوري لا يعدُّ آخِرَ تعديلٍ بل يَتوقَّع الفلكيُّون ضرورةَ تعديل التقويم الميلاديِّ كلَّ أربعة آلاف سنة؛ بسبب الاختلافات الطَّفيفةِ في مُدَّة دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس، هذا فضلًا عن أنَّ الخطأ الحسابِيَّ في النِّظام الشمسي يحتاج إلى متخصِّصين للكشف عنه، كما يحتاج المتخصِّصون إلى قرونٍ لكي تَبْدو لهم تلك الأخطاءُ المتراكمة.
من أخطاء التقويم الميلادي:
يقول الشيخ محمد بن كاظم حبيب: من الخطأ الكبيرِ في التقويم الميلاديِّ زَعْمُ أصحابه أنَّ ميلاد المسيحِ عليه السَّلام كان في فصل الشِّتاء، وموسم الثُّلوج والأمطار، والبَرْد والرَّعد، ولكنه كان في حقيقة الأمر في أوج فصل الصَّيف الحارِّ، وهو موسم نضوج البلَح؛ حيث أوحى الله تعالى لِمَريم أن تهزَّ النَّخلة فيتَساقط عليها البلح النَّاضج، قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]، ومعلومٌ أنَّ الرُّطَب ينضج في موسم الصَّيف، مع شدَّة الحرارة، وبالرجوع إلى هذه القصَّة في موضعها من الأناجيل؛ نَجِد أنَّ الرُّعاة كانوا في البَرِّية يرعون الغنَم؛ حيث العشبُ الأخضر، والسماءُ الصافية في المساء، والنُّجوم تتلألأ، وكلُّ ذلك لا يكون في الشِّتاء، والفرق بين التوقيتَيْن حوالي خمسة أشهر.
أيضًا؛ فإنَّ طول السَّنَة الشمسيَّة منذ أنْ خَلَق اللهُ الأرضَ والشمسَ والقمرَ، وإلى أن تقوم الساعةُ هو (364 يومًا، و23ساعة، و55 دقيقة، و12 ثانية)، وليس كما زعم الفلكيُّون قديمًا وحديثًا، حين جعَلوها من مرحلةٍ لِمَرحلة، من 364,25 يوم، ثم 365,25 يومًا في نظامِ الإصلاح اليولياني، ثم 365,2425 يومًا في نظام الإصلاح الجريجوري، وكلُّ ذلك أخطاء بشريَّة فلَكِيَّة متوالية في تحديد طول السَّنَة الشمسيَّة، كان لها أثَرُها السلبِيُّ على تحديد مكان الشَّمس في أفلاكها، وبرُوجها ومن ثَمَّ على تحديد ميقات بداية الفصول الأربعة، واختلاف الطَّقس والمناخ بين النظريَّة والتطبيق؛ حيث بلغَ الفرق والخطأ منذ عهد يوليوس قيصر عام 45 ق.م حتَّى عام 2004م حوالي (520 يومًا).
ومن أمثلة العبَثِ التاريخيِّ في التقويم الميلاديِّ: ما فعَلَه (يوليوس قيصر)، عندما نقلَ بداية السَّنَة من شهر مارس إلى شهر يناير في سنة 45 ق.م، وقرَّر أن يكون عدَدُ أيام الأشهر الفرديَّة 31 يومًا، والزوجيَّة 30 يومًا، عدا شهر فبراير 29 يومًا، وإن كانت السنة كبيسةً يُصبِح ثلاثين يومًا، وتكريمًا ليولوس قيصر سُمِّي شهر كونتليس (الشهر السابع) باسم يوليو، وكان ذلك في سنة 44 ق. م، وفي سنة 8 ق. م غيَّرَ شهر سكستيلس باسم أغسطس؛ تمجيدًا لأغسطس قيصر، القيصر الذي انتصرَ على أنطونيو في موقعة أكتيوم سنة 31 ق. م، ومن أجل مزيدٍ من التَّكريم؛ فقد زادوا يومًا في شهر أغسطس؛ لِيُصبح 31 يومًا بِأَخْذِ يومٍ من أيام فبراير، وترتَّبَ على هذا التغيير توالِي ثلاثة أشهر بطول 31 يومًا (7، 8، 9) نتيجة لذلك؛ أخذَ اليوم الحادي والثلاثين من كلٍّ من شهرَيْ سبتمبر ونوفمبر، وأُضيفا إلى شهرَيْ أكتوبر وديسمبر.
التقويم الهجري:
التَّقويم القمَريُّ تقويمٌ ربَّاني سماوي كَوْني توقيفيٌّ، قديمٌ قِدَم البشريَّة، ليس من ابتداع أحَد الفلَكيِّين، وليس للفلكيِّين سلطانٌ على أسماء الشُّهور العربية القمريَّة، ولا على عدَدِها أو تسلسُلِها أو أطوالها، وإنَّما يتمُّ كلُّ ذلك في حركةٍ كونيَّة ربَّانية، وتَمَّ تحديد عدد الشُّهور السنويَّة في كتاب الله القويم؛ قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وفي الوقت الذي عبثت أصابعُ الفلَكيِّين بتقويم الأمم الأخرى في كلِّ جزئية من جزئياتها، وأسماء شهورها، وأطوالها وهيئاتها وتسلسلها، فإنَّه لا سُلطةَ للفَلكيِّين، أو غيرِهم على التقويم القمريِّ؛ بحيث لا يستطيع أحدٌ استبدالَ اسم شهرٍ بشهر، أو موقع شهرٍ بشهر، أو زيادة يوم فيه، أو نقْص يومٍ منه؛ فهو تقويمٌ كامل، لا يَحتاج إلى تعديلٍ أو تصحيح، وهو ربَّاني من تقدير العزيز العليم.
ومن مميِّزات التقويم الهجريِّ أنَّ تاريخنا الإسلاميَّ الحافل، وأمورنا الدينيَّة كلَّها ترتبط بالشُّهور القمرية، فالحَجُّ والصِّيام والزَّكاة، وعِدَّة الطلاق كلُّها ترتبط بالشُّهور القمريَّة، وعلى سبيل المثال- وليس الحصر- فإنَّ الزكاة تُدفَع إذا بلغ المالُ نِصابَها، وحالَ الحول؛ أي: العام الهجري، ولو اعتمَدْنا على السنة الميلاديَّة، فمعنى ذلك أنَّنا ننقص من حقوق مستحقِّي الزكاة؛ لأنَّ كل 32 سنة ميلادية تعادل 33 سنة هجرية، فإذا كان لدَيْنا زكاة تعتمد على السنة الميلاديَّة التي تزيد 11 يومًا على السنة الهجريَّة، فإننا نُضيع زكاةَ سنةٍ هجريَّة كلَّ 32 سنة ميلادية!
بين الرؤية والحساب:
يَعِيب أنصارُ الحساب على الرُّؤية أنَّ لَها سلبيَّاتٍ كثيرةً، منها: الخطَأ البشريُّ الذي قد يقَع فيه الشُّهود، والوَهْم الذي قد يعتريهم، أو الكذب الذي قد يتعمَّدُه بعضُهم، أو الهوى الذي قد يُسيطر على قلوبهم، فيدفعهم لاجتنابِ الصِّدق والصواب.
وكلُّ ذلك وارِدٌ، وأكثر منه، ولكن الحساب أيضًا لا يَخْلو من تلك السلبيَّات والمخاوف والمَحاذير، ورُبَّما كانت أخطاءُ الفلَكيِّين على مدار السِّنين الخاليةِ أكثرَ من أخطاء شهود العيان، وأبلغَ في إبعاد المسلمين عن الحقِّ والصَّواب، وما زالت بياناتهم الفلكيَّةُ شاهدةً على أخطائهم، بل وما زالت برامِجُ حساباتهم المعَدَّة لتغذية الكومبيوتر، والكتب المحمَّلة بالجداول الرقميَّة الزمنية تشهد عليهم بارتكاب الأخطاء المُرَكَّبة.
والحاصل بكلِّ بساطةٍ أنَّ دور الرُّؤية في مسألة تحديد أوائل الشهور القمريَّة، لا يقلُّ بحالٍ عن دور الحساب، بل الرؤية مكمِّلةٌ للحساب، وشاهدةٌ على صحَّتِه أو خطئه، والحسابُ مكمِّل للرُّؤية، وشاهدٌ على صحَّتِها وخطئها ضمن إطارٍ معلوم، وشروط محدَّدة، فهُما وجهانِ لِحقيقة واحدة، ومشروعيتهما قائمةٌ بنصوص السُّنة والكتاب، وهو الحقُّ والصواب، فلا سبيل لإبطال دَوْر جانبٍ على حساب دور الجانب الآخر.
هذا فضلًا عن أنَّ نظام الحساب القمريِّ أَيْسَرُ للبشر، وأسْهلُ من النِّظام الشمسي، ولذلك جعلَه الله تعالى أساسًا لحساب الزَّمن، ومعرفة أوائل الشُّهور، وإحصاء عدد السنين، وتقدير الأيَّام من دون الشَّمس؛ لحكمةٍ ربَّانية بالِغة، أو أكثر من حكمةٍ؛ فمَظاهر التغيُّر في القمر واضحةٌ، وكلُّ إنسانٍ يُمكِنه ملاحظَتُها، بخلاف التغيُّرات التي تطرأ على الشمس، ولا يُدرِكها سوى المتخصِّصين.
المؤامرة:
لا يَخفى على أهل العلم دَوْرُ أعداء الإسلام في تَحْجيم التقويم الإسلامي، ومُحاولات طَمْسه وإخراجه من الساحة، وزعزعة ثقة المسلمين به؛ لاستبدال غيره به؛ لأغراضٍ لا تخفى على منصِف، يُغذِّيها الحقدُ الأعمى، والعداء المستمرُّ ضد كلِّ ما يَمُتُّ إلى الحضارة الإسلاميَّة بصِلَة، ولقد استمرَّت المؤامرةُ لِطَمس التاريخ الهجريِّ وإزالتِه، وتجهيل الشعوب الإسلاميَّة به قرونًا متوالية؛ ففي القرن الثامنَ عشر الميلاديِّ عندما أرادَت الدولة العثمانيَّةُ تحديثَ جيشها وسلاحها، طلبَتْ مساعدةَ الدُّول الأوربيَّة العظمى؛ (فرنسا، وألمانيا، وإنكلترا... إلخ)، فوافَقوا على مُساعدتِها بشروطٍ؛ منها: إلغاء التقويم الهجريِّ في الدَّولة العثمانيَّة، فرضخَتْ لضغوطهم، وفي القرن التاسعَ عشر عندما أراد خديوي مصر أن يَستقرض مبلغًا من الذَّهَب من إنجلترا وفرنسا؛ لِتَغطية مصاريف فَتْح قناة السويس، اشترطَتا عليه ستَّة شروط؛ منها: إلغاء التقويم الهجريِّ في مصر؛ فتمَّ إلغاؤه سنة 1875م، وأثناء فترة وقوعِ أغلب الدُّول الإسلاميَّة في براثن الاستعمار الغربي، حرصَ الأخيرُ على التعتيم على كلِّ ما هو إسلاميٌّ، واستمرَّ الحال كما هو عليه في أغلب هذه الدُّول؛ بتأثير مناهج التربية الغربيَّة الاستعماريَّة.
الكاتب: د. خالد النجار.
المصدر: موقع الألوكة.